صيام وقيام وختم للقرآن .. موائد عامرة وأبدان متطهرة ....
جنة مفتحة الأبواب , لكل من تاب إلي الله وأناب ....
شياطين حبيسة مصفدة , تراويح وتواشيح لإراحة الصدور والأفئدة ....
إنه رمضــــــان ... يسمي !!
وتعود بي دائرة الزمن إلي ثلاثة عقود مضت , أثناءالعطلة الصيفية في مرحلة دراستي الإبتدائية , حيث يبدأ الإجتماع السنوي التحضيري لكل أطفال العائلة , بل وكل أطفال شارعنا الذي أراد الله لبيوت عائلتنا الكريمة أن تقام علي جانبيه , من أجل وضع خطة العمل التي ومن خلالها ستوزع الأدوار, بعد أن تم تقسيمنا بواسطة أصغر خالاتنا , والتي هي بمثابة الأخت الكبيرة لنا إلي أربعة مجموعات .
المجموعة الأولي ستقوم بقص الأوراق والكتب القديمة , وغالباً ما تكون هي كتب العام الدراسي المنصرم , بعد أن تم تجميعها بموافقة الأهالي , والتي ستتحول بعد إقتصاصها إلي أوراق مستطيلة مشرشرة , لتقوم المجموعة الثانية بتلوينها بواسطة ألوان مائية رخيصة الثمن , تم شراؤها بنقود جمعناها من بعضنا البعض وساهم بالطبع معنا الآباء والأمهات . لتحويل تلك الأوراق البيضاء إلي حمراء وصفراء وخضراء , في محاولة منا لمضاهاة أفرخ الجلاد الملونة والتي لم يكن لدينا القدرة المادية علي شرائها في حينه , نظراً لضعف الإمكانيات ’ ونظراً لإفتقار بلدتنا إلي وجود المكتبات التي تبيع ذلك النوع من الأوراق غالية الثمن !!
مجموعة ثالثة ستكون مهمتها هي لصق تلك الأوراق بالخيط , الذي سيتم من خلاله الربط بين البيوت التي يمر من منتصفها الشارع , لتكَون مظلة من الأوراق الملونة , التي يحركها الهواء يمنة ويسرة دون أن تتساقط فوق رؤوس المارة , بفضل لصقها المحكم بعجينة النشاء التي أعدتها"ماما ماجدة " خالتنا سالفة الذكر , والتي ستقوم المجموعة الرابعة بتعليقها علي النحو الذي ذكرناه .
كان ذلك الإجتماع الطفولي , والذي غالباً مايتم قبل أن يتنفس صبح أول يوم من أيام الشهر الفضيل , هو أول طقوسنا في استقبال شهررمضان .
يليه ربما بأيام قلائل , عودة والدي من عمله محملاً ب " حاجات رمضان " كما كان يحلو له تسميتها , والتي لم تكن سوي إحتياجات أمي من الياميش والمكسرات وجوز الهند والزبيب , وبالطبع لم ينسي والدي أن يشتري لي فانوس يعمل بالبطارية وبداخله لمبة صغيرة علي شكل ببغاء ملون من الزجاج , في سابقة هي الأولي من نوعها !!
بعد أن تعودنا من قبل علي حمل الفانوس أبو شمعة , والذي لطالما أحترقت رؤوس أصابعنا عند حمله .
هكذا بدي لي رمضان قبل ثلاثة عقود , صلاة وصيام وتلاوة للقرآن بالنهار , وتراويح بالليل .
ولامانع بالطبع من مشاهدة التلفاز بقنواته الاثنتين , قبل أن تضاف إليهم اأختهم حديثة الولادة في حينه "القناة الثالثة" !!
حيث تقدم القناة الأولي حديث الشعراوي , وفوازير فطوطة وعمو فؤاد رايح يصطاد وحلقات ألف ليلة وليلة . في حين تقدم القناة الثانية برنامج الكاميرا الخفية وحكاوي القهاوي !! لم يخل الأمر بالطبع من وجود مسلسلات متميزة , كليالي الحلمية ورأفت الهجان ومن قبلهم الشهد والدموع , كان هذا هو كل ماأعده لنا التليفزيون المصري ’ نجلس بدورنا أمام الشاشة لمتابعته , وقد حملنا بين أيدينا أكواباً من عرق السوس , والذي إعتاد الوالد أدامه الله علي تحضيره بنفسه لنتناوله قبل إفطار كل يومٍ من أيام شهر رمضان .
تمرالساعت سريعة بعد الإفطاروكأنها قد ركبت قطار الإسكندرية السريع , بعد أن كانت في النهار تسيرفي بطئها كالسلحفاة العجوز, ومن ثم نقوم بتناول السحور , علي طبلة المسحراتي وصوت سيد مكاوي , الذي يسبق الانتقال الي اذاعة خارجية , لنقل صلاة الفجر من مسجد الإمام الحسين , حيث يؤم المصلين الشيخ أحمد فرحات , صاحب الصوت الأجش .
هذا هو رمضان الذي عشناه في أيام طفولتنا الأولي , قبل الفوانيس الآتية من الصين والتي لم تعد فوانيس , بل تحولت إلي دمي من البلاستيك الراقص الرخيص والضار بصحة الأطفال!!
اليوم وبعد مروركل تلك السنوات , عندما نري ماألقت به الأيام الينا عبر وسائل التواصل والفضائيات , ننظر بكثير من الإشفاق إلي أطفالنا الذين لم يعودوا أطفالاً , بفضل أطباق الإستقبال وقنواتها التي تعد بالمئات .
والتي باتت تتفنن في بث كل ما من شأنه إفساد حاسة التذوق الوجداني لدي أطفالنا والشباب , بسبب ما تلقيه من أحمالً ثقيلة من برامج وأفلام ومسلسلات , لم تكن جريمتها الوحيدة هي ماذكرناه من إفساد وإخلال بقيم المجتمع المصري , بل أفقدتنا الإحساس بالبهجة , بعد أن بات كل شيئ في متناول اليد , سواءاً من خلالها أو عن طريق أداة الإفساد الأولي ’ والمسماة بالإنترنت !!
أصبح كل شيئ متاح ومباح , باستطاعة أي شخص الحصول علي الأغنية التي يود الاستماع اليها في حينه , ليذهب الأشتياق إلي سماع أغنية نحبها عن طريق إذاعتها بالمصادفة أدراج لرياح , ناهيك عن ماهية تلك المسلسلات وماتضمنته من سلوكيات غريبة علي مجتمعنا وألفاظ تحمل الكثير من البذاءة , الأمر الذي لايليق أبداً بأن يشاهده الناس في الأيام العادية , فمابالنا بتلك البرامج والمسلسلات وقد أذيعت في شهر أُنزل فيه القرآن !! وأما عن برامج المقالب السخيفة , فحدث ولا حرج .
أين نحن الآن , من تلك الأيام الخوالي والتي كان دليلنا الأول فيها إلي أقتراب شهر العتق من النار , أغنية " رمضان جانا " بصوت عبدالمطلب , والتي كانت تتهلل وجوهنا فرحاً لسماعها وكأن لسان حالنا يقول .. إنت جيت يارمضان ؟؟