كانت طفلة صغيرة لم يتعدى عمرها الست سنوات , عندما كانت مريضة بالتهاب رئوى وتم حجزها فى المستشفى العسكرى التابع للقوات المسلحة حيث كان والدها ضابطاً بالقوات المسلحة, لم تدرِ ما معنى ان تكون الوان زجاج الشبابيك والبلكونات باللون الازرق .
كانت الام نائمة عندما سمعت الطفلة الصغيرة صفارة الخطر, لم تدرِ ماهذة الاصوات , عندما وجدت الممرضة تأتى مسرعة لتطفئ الانوار , سمعتها تتحدث مع زميلتها لقد دمرت اسرائيل قرية كاملة , بالصواريخ , وسمعتها تتحدث عن مدرسة بحر البقر وماحدث فيها من مجزرة اودت بحياة الاطفال الصغار الذين هم فى عمر الزهور.
تخيلت الطفلة الصغيرة نفسها أذا لم تكن مريضة وكانت مع هؤلاء الاطفال الصغار , وهى فرحة وتلعب مع اصدقائها فى المدرسة , تخيلت وهى تحمل حقيبتها على كتفها , وتنهال القذائف من كل مكان , وهى ترى اصدقائها يتساقطون موتى امامها أو قد ماتت هى ايضاً مع من قد ماتوا .
تذكرت وهى تراهم وهم تُغتال ضحكاتهم وبراءتهم ليصبحوا اشلاء ممزقة.
قطعت الممرضة خيط الذكريات عندما اضاءت الانوار ايذاناً بإنتهاء صفارة الخطر وعودة الامان , وكيف الامان مع وجود عدو ينغص عليك الحياه, وقالت هيا يا امانى لتأخذين الدواء كان هذا متزامناً مع استيقاظ الام , على همهمة الاصوات .
مالبثت ايام قليلة حتى تم شفاء امانى , وذهبا الى البيت , بضعة ايام ثم التحقت امانى بالمدرسة الابتدائية , كانت تريد مدرسة بحر البقر , تتمنى لو تنتقم لكل هؤلاء الاطفال الذين ماتوا , ليس فى المدرسة فحسب بل فى كل العالم .
كانت ترى الدموع فى عينى ابيها وامها عندما كانا يتحدثان عن نكسة 67 ونحن الان فى حرب الاستنزاف , تسمع ابيها وامها وهم يتبادلان احاديث النكسة , و حرب الاستنزاف ودائما المذياع يُذيع اخبار عن الجنود على الحبهة والجيش الاسرائيلى , وبعدها اغانى وطنية مؤثرة للغاية ,تراهم وهم يبكون والدموع تسيل , هى لا تفهم ما المقصود , هل تسأل الاب أم تسأل الام ؟ مامعنى هذا الكلام , كل ما فى الامر ان امانى تبكى على بكائهم , وتبكى على هؤلاء الاطفال الذين لاذنب لهم. .
فى اليوم الثانى من العام الدراسى لها , وقد تاخرت كثيراً فى المنهج , ولكن ُمدرسين العربى والرياضة قد قاموا بمذاكرة الدروس التى فاتتها مجاناً بدون مقابل لأمانى , حيث لم يكن هناك دروس خصوصية , والتعليم كان يسوده الضمير الحى , لم يكن قد اصابه الغيبوبة بعد .
سألت امانى مدرٍسة العربى عن نكسة 67 وعن حرب الاستنزاف فقالت لها حرب 1967 هى حرب كانت بيننا وبين العدو الغاشم اسرائيل , التى دبرت وخططت من قبل لكى تحتل مصر , اخذتنا على حين غرة ,ولم يكن الجيش المصرى قد تهيا بعد لهذة المعركة الغير متكافئة .
عندما كان هناك قوات طوارئ على الحدود المصرية من قبل اسرائيل ورفضت انسحابهم من على الحدود , قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بغلق مضيق تيران الذى كانت تعبر فيه سفن اسرائيل , فأعلنت اسرائيل الحرب على مصر.
وافق جمال عبد الناصر على الحرب وامر بالتعبئة العامة للجيش , وفى خلال اسبوع وقبل تدريب الجنود تدريب كافى كانت الضربات المتلاحقة من الجيش الاسرائيلى على حين غرة فى صباح الخامس من يونية 67 , حتى الحقت بالجيش المصرى خسائر فادحة فى العدة والعتاد , ومات الاف الجنود.
امر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالانسحاب ليحافظ على البقية الباقية من الجيش.
فرحت وسُرت اسرائيل بنبأ انسحاب الجيش المصرى , سرعان ما احتلت سيناء واغلقت قناة السويس عن المصريين , ولم يتم فتحها الا بعد نصر اكتوبر .
اما حرب الاستنزاف ,لم يتقبل الجيش المصرى ولا المصرين خبر الهزيمة الذى لحق بهم , فشعر المصريين بالانكسار وفقد الكرامة , مع الشعور بالحزن والالم, مما جعل الرئيس جمال عبد الناصر يتنحى عن السلطة , ولكن الشعب المصرى يخرج الى الشوارع والميادين ليطالب الرئيس المتنحى بالعودة الى سلطة الحكم مرة آخرى.
اعاد الرئيس جمال عبد الناصر بناء الجيش مرة آخرى , وبدأت حرب الاستنزاف والتى استمرت فيما بعد الف يوم عندما بدأ جيش الاحتلال , فى الشهر الذى يلى الاحتلال فى شهر يولية من نفس عام 1967 من احتلال بورسعيد مما جعل الجيش والشعب المصرى يتصدى لهذا العدوان فى معركة رأس العش بفضل قوات الصاعقة , وغيرها من العمليات الآخرى التى رد بها الجيش المصرى على اعتداء اسرائيل السافر.
لم تفهم امانى كل القصة ولكن جاء احساس الوطنية لديها , جاء احساس الوطنية وحب هذا الوطن , وتمنت امانى ان تكبر بسرعة لتشارك فى الدفاع عن هذا الوطن بغض النظر عن كونها بنت .
مازالت المدرٍسة تتحدث حتى سمعت صفارة الانذار بالغارة , فهرع كل من فى المنزل والحى الى الخنادق المجاورة للأحتماء من صواريخ العدو, ثم انصرف الجميع الى منازلهم بعد هدوء الاجواء , وذهبت امانى مع ابيها وامها الى المنزل .
رآت امانى ابيها يعد حقيبة السفر وامها تساعده وهو مرتدى الزى العسكرى , قالت أين انت ذاهب يا ابى ؟ قال لها ذاهب الى جبهة القتال الى الجيش الثانى ياامانى لقد انتهت فترة اجازتى .
ودعهم ثم ذهب فى مأموريته العسكرية , كان المذياع طوال الوقت يذيع اخبار حرب الاستنزاف وما يحققة الجنود من خسائر فى الجيش الاسرائيلى لرد العدوان وجلائهم عن الوطن, حتى سمعوا فى الاذاعة المصرية عن وقف الحرب بين الطرفين قبل اواخر 1970.
الذكريات تمر سريعا تحكى امانى : كنت لا اعى شيئاً فقط اشعر بحب بداخلى يعترينى , عندما مات جمال عبد الناصر جلست انا واخى الصغير نشاهد امى وهى تبكى , بل وارتدت الزى الاسود , وذهبنا معها انا واخى فى قصر القبة للعزاء , كنت اشاهد الاف البشر فى الشوارع يهتفون بالروح بالدم نفديك ياجمال , اذكر انى شاهدت جنازة جمال عبد الناصر ورآيت دموع الناس تسيل واغماءات فى الشوارع , كانت مشاعر جميلة كنت استشعرها وقتها , الحب والترابط والوطنية , لا كره لا احقاد ,لم نكن ندرى خفايا السياسات .
فقط جمال كان يحبة الشعب بكل فئاته الا بعض الفئات .
مرت ثلاث سنوات وسمعنا عن حرب اكتوبر, قبلها كان تنويه فقط , ولكن بدون اعلام للشعب , لم يكن احد يعلم بميعاد التنفيذ ولا حتى ابى الذى كنت اتمنى ان يموت شهيدا وافتخر به كما كان الاطفال الصغار فى مثل سنى يفتخرون بابائهم عندما كان المدرسين ينادون بأسمائهم ليعطوهم هدايا وجوائز لأن ابائهم شهداء فى حرب اكتوبر .
كان النصر عيد لكل المصريين , النصر الذى جاء فى ست ساعات , وكانت الهزيمة فى سته ايام وحرب الاستنزاف فى الف يوم , ومرارة المصرين دهراً من الزمان غسلته حرب اكتوبربالنصر العظيم بفضل الله ثم بالراحل الشهيد محمد انور السادات الذى اذهل العدو بخطته وخوضة المعركة بعد الاستعداد والتجهيز مع عنصر المفاجأه , .
بعد مرور 43 عاما تذكرت امانى هذة الايام وكأنها الان , وكأنها ثوانى , تقول : ذكرياتى بسيطة ولكنها حفرت وسطرت حب الوطن فى قلبى ووجدانى , وان شعب مصر ابطال برجالة وجيشة واننا كما قهرنا اسرائيل بتحطيم خط بارليف الحصين وهزيمتها واسترداد ارضنا نستطيع ان تقهر آى عدو يفكر فى دمار مصرنا الغالية .